تصفح برقم المجلد > من أحكام وفتاوى الزكاة > من فتاوى الزكاة > بيان فضل إنفاق المال في بناء المساجد وكفالة الأيتام والفقراء

( الصفحة رقم: 55 )

من فتاوى الزكاة

( الصفحة رقم: 56 )
( الصفحة رقم: 57 )

1- بيان فضل إنفاق المال في بناء المساجد وكفالة الأيتام والفقراء

س: يوجد أناسا أنعم الله عليهم بنعمة المال فهم يملكون الثروات الطائلة، وقد بلغو الستين والسبعين بل والثمانين، أي في معترك المنايا، ومع هذا فليس لهم أي دور في مساعدة المحتاجين، أو بناء المساجد، أو إنشاء الأوقاف، ونحو ذلك من الأعمال المباركة التي تكون ذُخرًا لهم يوم القيامة، وكل ما يقومون به هو دفع الزكاة، أو إخراج الأعطيات القليلة، فهل من كلمة لهؤلاء تبينون لهم أثر الأعمال الصالحة، وأهمية الأوقاف، وبناء المساجد، ورعاية الأيتام ، لعل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بما تقولون؟
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وعلى صحابته أجمعين، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد:
الأخ السائل طرح هذه القضية، قال: إنه يوجد أناس من عباد الله المؤمنين منحهم الله عز وجل الأموال الطائلة، وهم فيما بين الستين إلى السبعين، بل منهم من تجاوز الثمانين، ولا نرى لهم أثرًا في مشاريع الخير، من بناء المساجد والمستشفيات والمدارس، وإسعاف المحتاجين، كما لا نرى لهم أيضًا نشاطًا في التسهيل على الأمة في أمور دنياها، وإنما يخرجون الزكاة أو
( الصفحة رقم: 58)
بعض الأعطيات، ونريد توجيهًا لهم، نقول يا أخي، أولاً: إن المال نعمة من نعم الله على عباده، ويبتلي الرب جل وعلا بعض عباده بالمال، ويوسع لهم في الرزق، ويبتلي بعض عباده بالتقتير عليه، قال جل وعلا: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ، وقال تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلاَّ ، أي ليس من وسعنا عليه الرزق عنوان محبة، ولا من ضيقنا عليه عنوان بُغض، فإن ذلك ليس علامةً على ذلك، إن محبة الله للعبد أو بغضه له على قدر أعماله، فإن كان ذا أعمال صالحة أحبه الله، وإن كان ذا أعمال سيئة أبغضه الله على قدر ما عنده من المخالفات والسيئات، والمال قد يكون نعمة، وقد يكون فتنةً وبلاءً وعدوًا للإنسان، قال جل وعلا: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، قد يكون المال فتنة للإنسان، يفتنه عن الحق، ويصده عن الحق، ويكون سببًا لطغيانه وأشره وكبرياءه وتعاظمه على عباد الله، كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ،
( الصفحة رقم: 59)
فإن المال قد يحمل على البطر، والأشر، والطغيان، والفساد، والاغترار بالنفس، والاعتداد بها، قال جل وعلا: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ماذا أجاب؟ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي بأني أهل لذلك، وأني صاحب قدرة على اكتساب المال، قال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ، وقال تعالى مبينًا موقف الناس منه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ، ثم أخبر عن مآله: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
( الصفحة رقم: 60)
ثم قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا ، فإن الأموال تطغي الإنسان حتى تورثه العلو في الأرض، والتكبر عن الحق، والصد عن الحق، وعدم الانقياد له، والمال زينة في هذه الدنيا، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ، وقال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، ثم قال تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ، وقال رادًا على من اغترَّ بماله قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ .
فيا أخي المال فتنة، والمال إما نعمة لك، وإما فتنة لك، المال إما يقودك إلى الخير، وإما يهوي بك في نار جهنم، المال إن لم تقم بشكر الله عليه بأداء الحقوق الواجبة، ثم تُكمّل ذلك بالمستحبة، وإلا ابتليت بخدمة المال وجمعه وينتفع به من بعدك، اعلم أن هذا المال زينة في هذه الدنيا فقط، وإنك مفارقه ولابد، ولن يتبعك من هذا المال إلا عمل صالح
( الصفحة رقم: 61)
عمِلت به في هذا المال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثٌ، أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ الأهْلُ وَالمَالُ، وَيَبْقَى العَمَلُ" ، ولكن إذا أُديت زكاة الأموال، وأحصى المسلم أمواله وأدى زكاتها من نقودٍ أو زكاة عروضٍ أو بهيمة الأنعام ونحو ذلك، إذا أحصاها وأداها أداءًا كاملاً فإن أداءه للزكاة مُبرئ لذمته من تبِعات الأموال، فالمال الذي يزكّى ليست كنزًا، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ، فإذا أُديت زكاة المال فإن الأمر سهل، لكن يبقى على المسلم أنواع من البر من الأوقاف النافعة، والصدقات الجارية، قال صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ الإنسان انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاَثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" ، يا أخي، هذه الأموال التي جمعتها لو تريد أن تتبرع وتتصدق بأكثر من الثلث لمُنعت من ذلك، إذًا فقدم لنفسك في هذه الدنيا ما عسى أن يكون زادًا لك يوم لقاء الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مَالُ مُورِّثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ" ،
( الصفحة رقم: 62)
قَالُوا يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قَالَ: "فَإِنَّ مالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ"
فالمال الذي لك هو الذي أنفقته وقدمت به عملاً صالحًا، أما ما جمعته فإنه ينتقل للوارث وليس لك منه نصيب، وقد يسعد فيه الوارث بالإحسان والبر والعمل الصالح فيزداد خيرًا وقد حُرمت هذا الخير، فالوصية أولاً بالزكاة، وإحصائها وعدِّها وإخراجها بكل صدق وأمانة، فإذا أُدِيت الزكاة ينبغي للمسلم أن لا يترك نفسه من صلةِ رحِمِه، والإحسان إلى عباد الله من بناء المساجد، والمستشفيات، والمستوصفات، والمشاريع الخيرية النافعة التي تنفعك في حياتك من مساعدة في قضاء دين المدينين، وفك أسر المأسورين، وتفريج كرب المكروبين، والتنفيس عن المهمومين، لعل الله جل وعلا أن يجعل ذلك في ميزان أعمالك يوم قدومك على الله تعالى.



  سابق     تالي